لو كان الأمر بهذه البساطة والمنطقية لاستطاع كل إنسان أن يتغيّر بدون جهد مثل أي روبوت يصنعه: يدرس المسار الأفضل للمعلومة ليطبقها في أرض الواقع.
غادة عنقاوي
إذا سلمنا بما سبق من كون التغيير يحتاج إلى فكرة وان الأفكار تصنع المشاعر وان المشاعر تؤدي للسلوك. واذا سلمنا بان الافكار نوعين، منها ما يرد على الذات التلقائية وتقوم باستقصائه فورا وبدون علم من الذات المنطقية لكون الذات التلقائية حكيمة وتعرف ما يفيدها وما يضرها بطبيعة البرنامج الذي تم تغذيتها به. واذا سلمنا ان هناك نوع آخر من الأفكار تتقبله الذات التلقائية وتتبناه وتضعه في مكانه الصحيح وتعمل به، واذا سلمنا ان الافكار الواردة هي ما تعرضه الذات المنطقية أو تستقصيه. وان العرض والاستقصاء مبني على منطقية الأفكار وقيمتها. وان الطريقة التي تعرض بها الذات المنطقية الأفكار هي طريقة ذات معنى تجعل من الذات التلقائية حقلا خصبا لتوظيف هذه الأفكار واستخدامها في ارض الواقع العملي لمصلحة الإنسان. اذا سلمنا بهذه النظريّات، فإنّ من المفترض ان يكون الموضوع سلسا وسهلا ولا يتطلب الكثير من الجهد.
فأنت تقرأ كتابي هذا وتقتنع بما فيه ( بذاتك المنطقية) و اقتناعك ينتقل الى ( ذاتك التلقائية) وتبدأ هذه الذات بتوظيف الأفكار فتتغيّر وتصبح انسان ايجابي متطلّع مبدع غير محدود الموارد ومنطلق في نهم إلى مزيد من الإنتاج والتعلم. بل وعاداتك اليومية جدا مثمرة فأنت تعمل وتنتج وتتفاعل مع من حولك بسعادة وتقبّل وإيجابية وتواجه مشاكلك اليومية بتفاؤل وثقة وتقوم بحل معظمها بتلقائية وسهولة، بالاضافة الى انك لمّاح ذكي فأيّ موضوع يتطلب التّعلّم تتعلّمه وتستطيع أن تتذكر ما تعلمت وتعبر عنه بصياغة قوية في المناسبات الاجتماعية حيث تبهر المستمعين بأسلوبك السّلس السّهل. كما انّك تكتب وتؤلف وتنتج فكريا حول موضوع تخصّصك واهتمامك بسهولة ويسر. وفي النهاية تتعلم لغة جديدة وتجد نفسك تتحدث بها بتلقائية وبدون قلق حول ما تنساه أو يلتبس عليك. خلاصة الكلام انت عبقري وغير محدود، بل أنت روبوت.
لكن الواقع غير ذلك فمهما تحدثت معك للصباح حول الأفكار الايجابية وأهميتها في حياتك والتغيير الذي يمكن أن يحدث لك لو تبنيت هذه الأفكار فانك لن تتغير. بل وأعددت لك دورة تدريبية لتعيش هذه الافكار الجميلة وتغذي بها ذاتك التلقائية لتكون جزء طبيعي من برنامجك الحياتي، فإذا بك تطبق وانت في الدورة وبعدها لفترة قصيرة ثم تكتشف مع مرور الايام أنّك حصلت فقط على شهادة في التفكير الإيجابي. بل وقررت أنا وأنت أن أكون مستشارك الخاص بحيث تلجأ لعقلي التلقائي والمنطقي في كل لحظة قرار أو أداء يتطلب منك أن تحصل على نتائج قوية. فعملت معك كل يوم صباحا مساءا وتحدثنا اوقاتا وساعات. ثم حصل لي موقف يوما ما غبت فيه عنك فإذا بك تعود لعاداتك القديمة وتفعل (بتلقائية غير منطقية) ما لم كنت لتفعله لو كنت معي أو في الدورة التدريبية أو أثناء قراءة الكتاب. إذا ماهي المشكلة؟
نعود الى سيناريو التنفس والسياقة وصناعة كوب القهوة في مقال “يتغيّر السّلوك بين الذاتين”. تخيل أنك أصبحت تتدخل في هذه العمليات التلقائية بشكل دقيق وتكرر الرسالة لذاتك التلقائية بأنها غير كفء على القيام بهذه الأعمال ولذا لابد أن تتدخل الذات المنطقية بحكمتها ومنطقها في إدارة الموقف بالكامل. تخيل ما يمكن أن يحدث؟
والآن فكر معي. كم موقف تلقائي في حياتك وردت إليك فيه معلومات منطقية من ذاتك المنطقية الى ذاتك التلقائية ولكن ذاتك التلقائية تفشل في تلقائيتها و تتعطّل عن العمل؟ تخيل ماذا تسمع ذاتك المنطقية تقول؟
هل سمعت ذاتك المنطقية تتلفظ بالتالي:
“كم مرة تعلّمت كذا ومع ذلك أخلط طريقة التنفيذ وخطواته”
“الست حفظته قبل قليل، لماذا انساه؟”
“كم انا غبي”
“أنا كثير النسيان”
“(لا ادري لماذا ولكني غير واثق من نفسي (ذاتي التلقائية”
“انا زعلان من نفسي”
“انا لا اظن اني اقدر”
“طيب لنضع حد لهذه المهزلة: اولا افعل كذا… ثم افعل كذا… ثم افعل كذا…”
ماهي الخطوات التي تحتاج الى التحكم في سياقة السّيارة الكلتش ؟…. إذا لنعملها سويا …خطوة خطوة…اولا اضغط رجلك حتى تصل الى نقطة الالتقاء بالكلتش….. بالقدم الاخرى قم بالضغط على… وفي نفس الوقت .. حرك الترس لرقم…الخ…
لاحظ النسق أعلاه والذي يدور في داخل راسك. لاحظ التعليمات المنطقية التي تمليها الذات المنطقية على الذات التلقائية لتعلّمها وتدرّبها كيف تسوق السيارة. لا حظ اللّغة التي تستخدمها. لاحظ الأوامر ونفاذ الصبر. ألا يكفي ان الذات المنطقية تحلل المهارات وتعطي التعليمات بتنفيذها بشكل متسلسل ودقيق، بل هي أيضا تقيّم وتهزّأ وتلوم وتؤنب وتوبخ وتسب وتشتم.
الذات المنطقية هي ليست فقط أفكار منطقية متسلسلة وانما ايضا تتبنّي ادواراً عديدةً تعلمتَها من الحياة بتقليد منْ كان لهم دور توجيهيّ أو تعليميّ في حياتك. تفعل الذات المنطقية ذلك لان الافكار المنطقية التي تبنتها في عملية التطبيع تملي بالمنطق ان هذه الادوار هي أفضل طريقة للتعليم والتدريب.
في هذه اللحظة وأنت تقرأ هذه السطور يحدث لديك وعي لان هذه الأدوار غير مقبولة ولا تتماشى مع ما ترغب في داخلك أن تتبناه من أدوار وأنت تعلّم إبنك. أنا سعيدة بأن حدث عندك هذا الإدراك ونتج عنه شعور بأنك لم تعد ترغب في أن تلعب هذه الأدوار وترغب في البديل وكأني استمع الى صوت ذاتك التلقائية تصرخ.
خلاص اسكت اتعبتني.. خليني اقوم بوظيفتي بدون تدخل منك.. المقال على حق!
نفسك التلقائية
التغيير ليس في فقط في طبيعة احترام الذّاتين لبعضهما في موضوع الخواطر والسّلوك وإنما التغيير في كيفية ضم قوة الذات التلقائية للمنطقية ليعملا سويّا مما يستدعي أن تثق كل منهما في الأخرى وتحترم إمكاناتها.
غادة عنقاوي